لاحظ كل الحاضرين للاجتماع الذي عقدته العابدة كاتبة الدولة في التعليم في الرباط مع مندوبي الوزارة، قدوم هذه الأخيرة للاجتماع مصحوبة بمرافقة خاصة تحمل لها الملفات وتلبس لباسا لا يمكن أن يترك أحدا «داخل سوق راسو». وقبل أن تجلس العابدة فوق مقعدها بالمنصة، سحبت المرافقة الأنيقة الكرسي لسعادة كاتبة الدولة كما يليق بوزيرة حقيقية. وعندما انتهى الاجتماع لم تقم كاتبة الدولة من مكانها مباشرة، وإنما انتظرت إلى أن تدخلت المرافقة وسحبت الكرسي لكي تقوم كاتبة الدولة وتغادر القاعة.
الشكليات في السياسة ضرورية، لكن الشكليات عندما تغلب على المضمون تنقلب الآية إلى مجرد «بخ»، أو ما يسميه المغاربة «الشكلي فالعكلي». فكاتبة الدولة في التعليم ووزير التعليم ومن يسهرون على تطبيق الخطة المستعجلة لإنقاذ التعليم، يعتقدون أن أزمة التعليم ستحل بالشكليات. ولذلك توصل رجال التعليم قبل أمس بورقة من الوزارة تحتوي على المعايير الوزارية الجديدة لتقييم جودة التعليم.
وحسب هذه الورقة الوزارية فالأقدمية لن يكون لها أي دور في الاستفادة من الترقية، فقرارات الترقية أصبحت في يد الإدارة التي يشتغل معها الأستاذ والمفتش الذي يأتي لتفتيشه، وأحيانا ليفش فيه «غدايدو». وحسب المذكرة الوزارية فالأستاذ يجب عليه لكي يحصل على تقييم إيجابي من طرف المدير والمفتش ألا يمرض وألا يتأخر في مواعيده، حتى ولو كانت قطارات الخليع لا تحترم مواعيدها، رغم جوائز الجودة التي تحصل عليها كل سنة، وحتى لو كانت حركة السير «مزفتة» ولا أحد يستطيع معها ضمان وصوله في الوقت لعمله.
وزارة التعليم تكلف المدير والمفتش بمراقبة وتقييم عمل الأستاذ والتقرير في مصير ترقيته من عدمها، وهي تعرف أن هناك مديرين ومفتشين سيستغلون هذه السلطة لابتزاز الأساتذة أو الانتقام منهم. فيكفي ألا تقول أستاذة لبعض المدراء المعقدين حتى يقرر هذا الأخير تجميدها في سلمها إلى حين وصولها سن التقاعد.
فما دامت الأقدمية «مابقاتش واكلة» فإن «الوجهيات» هي التي ستأخذ مكانها. وزارة التعليم تفوض للمدراء والمفتشين حل «صداع الراس ديال» الأستاذة، فيما تتفرغ هي للصفقات الكبرى التي تقدر بعشرات الملايير. فالوزير اخشيشن وكاتبته في الدولة العابدة قررا تحويل الوزارة إلى شركة لشراء المعدات وتقديم الخدمات عوض التركيز على الدور البيداغوجي المفروض أن تلعبه وزارة التعليم. فقد قررت الوزارة التكفل بطلبات العروض لبناء عشرات المؤسسات التعليمية في كل مناطق المغرب، وخلقت مركزا في الوزارة لاقتناء المعدات الديداكتيكية.
وهكذا حرمت أكاديميات التعليم الجهوية من دورها العمومي الذي يخوله لها القانون، وهو السهر على بناء وتجهيز المؤسسات التعليمية التي تدخل ضمن تراب كل مندوبية.
ويبدو أن وزارة التعليم تفهم سياسة الجهوية بطريقتها الخاصة. ففي الوقت الذي يذهب فيه الخطاب الرسمي نحو منح الجهات صلاحيات أكبر واستقلالا ماديا أوسع من أجل تدبير متطلباتها حسب حاجيات كل جهة، فإن وزارة التعليم قررت أن تسحب من أكاديميات التعليم الجهوية هذه «الدجاجة بكامونها» والتي يصل غلافها المالي إلى 35 مليار درهم، لكي «تسهر» شخصيا على تفويتها إلى الشركات الكبرى التي يسيل لعابها هذه الأيام للفوز بصفقات الوزارة.
وبالنظر إلى المشاريع التي انخرطت فيها وزارة التعليم في عهد اخشيشن فقد أصبح ضروريا إلحاقها بوزارة احجيرة، فالرجل يريد تحويل وزارة التربية والتعليم إلى وزارة للصفقات والأشغال العمومية. وعوض الانكباب على تطوير مناهج التعليم وتحسين مستوى تكوين الأساتذة ومراجعة بعض المواد التعليمية «البيريمي» التي يسممون بها عقول الأطفال، تفضل وزارة التعليم التخصص في صفقات شراء المعدات وتفويت أوراش «البغلي والمرطوب» للشركات العقارية.
والخطير في هذا التوجه الوزاري الجديد هو أنه يغلف بطبقة سميكة من «السولوفان» اسمها «خطة إنقاذ التعليم». وكأن التعليم العمومي سيتم إنقاذه بالياجور وليس بإصلاح البرامج التعليمية وإعادة الاعتبار للأستاذ عوض اعتباره خصما يجب تسليط سيف المدير والمفتش على مصيره المهني.
إن تحويل وزارة التعليم إلى مركز لشراء المعدات وعقد صفقات البناء والتشييد وفتح الأوراش يعتبر جريمة في حق التعليم العمومي. فالورش الوحيد والحقيقي الذي يجب أن تنكب عليه الوزارة هو ورش إصلاح منظومة التعليم. هناك مؤسسات تعليمية بدون حراس عامين، بدون مساعدي مختبرات، بدون مراقبي مكتبات. منظومتنا التعليمية تعاني من كثافة في الشعب والاختصاصات، واستعمال الزمن مبرمج بشكل سيء، بحيث يتم تغيير الحصص وإضافة أخرى بشكل عشوائي وحسب الظروف والأشخاص.
هناك مواد دراسية لا تعلب أي دور في تنمية مدارك التلميذ، وهناك فائض في المواد يجعل التلاميذ يغادرون المدرسة شبه أميين. وحتى على مستوى الأطر، فقد أصبحنا نرى مؤطرين لا يحسنون كتابة نص خال من الأخطاء، أو الحديث بدون تلعثم. والسبب أن برامج التعليم في مراكز المكونين لا تساير التطور العلمي الذي يعرفه عالم المعرفة.
هذا هو الورش الحقيقي الذي يجب أن تنخرط فيه وزارة التعليم وأن تخصص له كل تلك الملايير التي تستعد أن تصرف جزءا كبيرا منها على الحيطان والسواري. وإذا كانت الوزارة خائفة على ملاييرها من لصوص المال العام ببعض الأكاديميات، فما عليها سوى أن تعطيهم الميزانية لكي يشيدوا المؤسسات التعليمية التي يحتاجونها ومعها دفتر تحملات واضح يقنن عملية تفويت الصفقات ومراقبتها ويحدد آجالا مضبوطة لتسليمها. فهذا هو الدور الحقيقي لوزارة التعليم، لا أن تتحول إلى شركة توزع الصفقات وتشتري المعدات وتبني كأي «طاشرون».
إذا كان لوزارة التعليم مشكل مع أكاديمياتها على مستوى الشفافية في إنجاز الصفقات العمومية، فمهمة الوزارة هي مساعدتها ومرافقتها ومراقبتها، لا تجرديها من أحد اختصاصاتها التي يخولها لها القانون. فبهذا الشكل تخلق الوزارة ثقافة جديدة لدى أكاديمياتها، وهي ثقافة كشف الحسابات والمراقبة تجنبا «للهرفة».
وبالإضافة إلى تجريد الأكاديميات من أحد اختصاصاتها الجهوية، سيتسبب تأميم الوزارة لمشاريع بناء المؤسسات التعليمية في حرمان الشركات العقارية المحلية من الاستفادة من صفقات الأكاديميات، فالظاهر أن الوزارة لديها شركات عقارية كبرى بعينها تريد تفويت غلاف 43 مليار درهم لصالحها.
والغريب في الأمر أن مخطط الإنقاذ الذي قدمته وزارة التعليم، يركز فقط على مسؤولية رجل التعليم وضرورة إخضاعه للتنقيط والمراقبة من طرف المفتش والمدير. ويتغاضى عن طرق صرف هذا الغلاف المالي الذي يعتبر الأضخم في تاريخ وزارة التعليم.
«43 مليار درهم راه ما جمعها غير الفم».
رشيد نيني-المساء