درجات الناس في هذه الدنيا
الحقيقة أنّ الناس في هذه الدنيا أربعة أقسام:
1ـ فأناس: نظروا في آيات الكون منذ طفولتهم فاهتدوا إلى خالقهم وأقبلوا على ربهم منذ نشأتهم ولم ينقطعوا عنه طرفة عين طوال حياتهم، فهؤلاء بإقبالهم الدائم على خالقهم ظلَّت نفوسهم طاهرة لم يلوِّثوها بجرثوم الشهوات الخبيثة بل حُفظوا وعُصِموا، وتلك هي حال الأنبياء الذين نشؤوا على الإيمان وترعرعوا في الإقبال المتواصل ولم ينقطعوا لحظةً من اللحظات، فكان النور الإلهي متوارداً على قلوبهم وسبباً في طهارة نفوسهم قبل بعثتهم وبعد رسالتهم.
وهذا هو المراد بالعصمة كما وصف تعالى أنبياءه المعصومين بآية:
{.. بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ ، لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} سورة الأنبياء: الآية (26-27).
وآية: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً ، لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} سورة الفتح: الآية (1-2).
أي بإقبالك العالي على ربِّك منذ نشأتك، تجلّى عليك ربك بنوره، فكان ذلك النور مبيِّناً حقائق الأشياء، وبذلك غفر لك الله أي: شفاك فلم تقع في ذنب قبل البعثة ولا بعدها بل كنت بهذا طاهراً معصوماً.
ولهذا فالأنبياء والمرسلون لا تحتاج نفوسهم الطاهرة إلى مداواة، بل تجدهم محفوظين من العذاب في الدنيا والآخرة. وكل ما يعرض لهم من المصائب في الدنيا وكل ما يلقونه من أذى أقوامهم ومعارضتهم إن هو إلا سبب لظهور شرف نفوسهم وكمال حنانهم ورحمتهم ورفيع صفاتهم وإنسانيتهم.
2ـ وأما القسم الثاني: فهم الذين آمنوا بربهم وكان لهم إقبال عليه تعالى وصلة، غير أنهم لم يصلوا إلى ما وصل إليه أصحاب القسم الأول من دوام الإقبال والصلة، بل كان إقبالهم متقطِّعاً ساعة وساعة.
فهؤلاء ما داموا مُقبلين داموا محفوظين من المعاصي والوقوع في الشهوات، فإن هم انقطعوا عثروا ووقعوا، وهنالك يجازيهم الله على أعمالهم، ويسوق لهم من المصائب والشدائد ما يتناسب مع عملهم، وما يكون سبباً في رجوعهم إلى خالقهم واتجاههم إليه وجهة صادقة، وبهذه الوجهة تطهر نفوسهم مما علق بها وتُشفى من عللها.
فإذا ماتوا ماتوا طيِّبين، ويكون ما أصابهم من الشدائد في الدنيا فضلاً من الله ورحمة، وتكون أمراضهم الجسمية سبباً في شفاء نفوسهم من عللها المعنوية وجراثيمهم المهلكة ليكونوا أهلاً لدخول الجنّة والتمتُّع بما أعدَّه لهم ربهم من فضل ونعمة.
3ـ أما القسم الثالث: وهم الذين آمنوا وكانت لهم بربهم صلة وكانت لهم وجهة، غير أن صلتهم كانت ضعيفة، وكانت ساعات انقطاعهم أكثر من ساعات إقبالهم، وبذلك لم تنمحِ من نفوسهم جراثيم الشهوة، ولم تطهر نفوسهم الطهارة التامة، بل ماتوا ودَرنُ المعاصي عالق في نفوسهم، ولم يتوبوا إلى الله التوبة الصحيحة. فهؤلاء وهذا حالهم لا يمكن أن يدخلوا الجنّة ما لم يخلصوا من عللهم، وتطهر نفوسهم من شهواتهم الخبيثة، وأنه لا بدّ لهم من النار، فهي خير علاج ودواء، فإذا أُلقوا فيها واشتدَّ عليهم حريقها فهنالك يستجيرون بخالقهم، ويكون لهم من إيمانهم وصِلَتهم السابقة التي اكتسبوها في دنياهم طريقٌ للإقبال على الله. وبهذا الإقبال تُشفى نفوسهم وتزكو، ويخلصون من خبثهم الذي كان سبباً في عذابهم وحريقهم، وعندها يساقون إلى الجنة، وفي الحديث الشريف:
« يخرجُ منَ النارِ منْ كان في قلبِه مثقالُ ذرَّةٍ من إيمان » مسند الإمام أحمد ج3 ص116.
4ـ أما أصحاب القسم الرابع: فهم الكافرون، الذين أعرضوا عن ربهم في دنياهم إعراضاً كلِّياً، فهؤلاء إذا ماتوا ولم تحصل لهم صلة بربهم طوال حياتهم يخرجون من قبورهم وقد اشتدت عليهم آلامهم النفسية ويصيحون مستجيرين بربِّهم، وهناك يساقون إلى النار فيصطلون بحريقها ويسلون ما يجدونه من الآلام النفسية التي لا تطاق، ويغيبون بعذاب الحريق عن ألمهم النفسي الشديد.
وحيث إن هؤلاء لم تكن لهم سابقة إيمان في دنياهم تجدهم لا يعرفون طريق الإقبال على الله، ولذلك فهذه الاستجارة المجرّدة من الإقبال لا تستطيع أن تشفي نفوسهم ممَّا بها، ولذلك يظلُّون خالدين في النار أبداً.
وهنا لا بدّ لنا من بيان معنى الإقبال الذي يكون به شفاء النفس مما فيها من علل وأمراض فنقول:
يتطلّب الإقبال على الله علماً برحمة الله، أي: شهوداً لتلك الرحمة الإلهية والعطف والحنان، أو ذَوْقاً نفسياً.
فالمؤمن الذي صار له في دنياه علمٌ، أي: شهود لتلك الرحمة الإلهية أو ذوق نفسي تراه لا يحجبه في الآخرة خجل من ذنب أو معصية، بل تتعاظم تلك الرحمة الإلهية يومئذ لديه ويزداد بها شهوداً، فيرى كل ذنب مهما عظم حقيراً صغيراً أمامها. وبهذه الرؤية لتلك الرحمة التي لا تتناهى تغلب على العبد الثقة بعطف الله وحنانه، ويحصل له الإقبال على الله. وهنالك وبهذا الإقبال على الله تطهر النفس وتخلص ممَّا بها.
أما الكافر فلم يحصل له في دنياه ذوق نفسي ولا علم ـ أي شهود ـ برحمة ربه، وكل ما يحصل له في الآخرة إن هو إلاَّ مجرَّد عُرْفٍ، إذ تعرِّفه وقائع الأحوال والسوْق إلى المداواة في النار برحمة ربه.
لكن ذلك العرف الذي لم يشهد الإنسان معه الرحمة الإلهية شهوداً نفسياً ولم يذقها ذوقاً، ذلك العرف المجرَّد عن الشهود والذوق لا يستطيع أن يحول بين خجل النفس من ذنوبها وبين إقبالها على ربها. وحيث إنه ليس لهذا الكافر في دنياه سابقة عمل صالح يستند إليه فيكون سبباً في إقبال نفسه يومئذ على خالقها تجده محبوساً في خجله مشغولاً بألمه، ولهذا لا يستطيع الإقبال على ربه ذلك الإقبال الذي يشفي نفسه ممَّا بها من أمراض بل يبقى خالداً في ذلك العذاب أبد الآباد.
وإذاً فالوجهة الصادقة إلى الله وإن شئت فقل الصلاة الطيبة التي يُصلِّيها المؤمن في دنياه، تُورث النفس ذوقاً أو علماً، أي شهوداً لرحمة الله وأسمائه الحسنى وبذلك تكون سبباً في شفاء النفس من عللها.
وكلما كان الإنسان أحسن صلاة وأتقى كان أكثر طهارة وأنقى، ومن استطاع أن يحصل له ذلك العلم أو الذوق لرحمة ربه وكماله في دنياه فقد أفلح وفاز، ومن أخذ بيدك إلى الله وعرَّفك بهذا فأنت مدين له مدى الحياة ولست تستطيع أن تجزيه على إحسانه بإحسان، ولكن سل الله أن يجزيه عنك خيراً فهو خير من يجزي وخير من يكافئ على الإحسان بإحسان.
[size=24][/size]